قالوا: وهذا حاله كحال الكافر الذي لا يجب عليه أن يقضي ما فات حال كفره. وبهذا الاستدلال نأتي إلى محور القضية، فقد قال رحمه الله تعالى: (فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادة ما فاته في حال إسلامه أصلياً كان أو مرتداً -كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء-؛ فقبول توبة تارك الصلاة وعدم توقفها على القضاء أولى). أقول: هذا هو مفرق الطريق وهذا هو المهم، وحبذا لو أنه -رحمه الله- بدأ به، ولكننا سنعرض ذلك بإيجاز من كلام شيخه شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه سئل -كما في
الفتاوى في الجزء الثاني والعشرين- عن تارك الصلاة من غير عذر: هل هو مسلم في تلك الحال أم لا؟ وهذه قضية مهمة وواقعة، وما أكثر ما نسأل عنها في هذه الأيام مع كثرة التائبين الراجعين إلى الله، والحمد لله، فمن لم يكن يصلي ولا يصوم هل كان مسلماً فيجب عليه القضاء، أم كان كافراً فلا يجب عليه أن يقضي ما فاته.فقال رحمه الله: (أما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً لوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة أو وجوب بعض أركانها) التي لا تصح إلا بها، أو شروطها (مثل أن يصلي بلا وضوء) إلى أن علم (أو يصلي مع الجنابة؛ فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة؛ فهذا ليس بكافر إذا لم يعلم، لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء: في مذهب
أحمد و
مالك وغيرهما قيل: يجب عليه القضاء. وهو المشهور عن أصحاب
الشافعي وكثير من أصحاب
أحمد ، وقيل: لا يجب عليه القضاء وهذا هو الظاهر). ثم ذكر أن أصل المسألة هو: هل يثبت التكليف في حق أي أحد من عباد الله المكلفين قبل أن يبلغه الخطاب؟ قال: الأظهر أنه لا يثبت على أحد الوجوب إلا بعد أن يبلغه أن الله أوجب عليه ذلك أو أن الله حرم عليه ذلك إذا كان في المنهيات؛ لقوله تعالى: ((
لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ))[الأنعام:19]، ولقوله تعالى: ((
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ))[الإسراء:15]، ولقوله: ((
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ))[النساء:165]، فجعل الله تعالى الشرط في قيام الحجة على الخلق هو أن يبلغهم عن الله ما أمرهم به. قال رحمه الله تعالى: (ومثل هذا في القرآن متعدد، بين سبحانه أنه لا يعاقب أحد حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآمن بذلك ولم يعلم كثيراً مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه؛ فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ؛ فأن لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). ونحن لا نتكلم عمن فرط ولم يسأل، بل الكلام عمن لم يبلغه شيء من الدين، لا عمن كان يمكنه ذلك ولكنه فرط ولم يتخذ إلى ذلك سبيلا، فالكلام في حالة تتحقق فيها الصورة من غير قيد، والصورة المفترضة هنا هي في إنسان لم يبلغه أن الله أوجب عليه الصلاة أو الزكاة أو حرم عليه الخمر ونحو ذلك من الأحكام، ما بلغه في ذلك شرع الله ولا بلغه دين الله، وهذا لا يستبعد أبداً، فأهل البوادي -مع ظهور العلم والمذياع والتلفاز- يتحقق هذا في كثير منهم، فكيف بأمثالهم في ذلك الزمن القديم؟! فنحن نتكلم عن القضية كقضية نظرية بغض النظر عن الوقوع، وأما لماذا يقع مثل هذا؟ ومن المفرط؟ ومن المؤاخذ بهذا؛ فهذه أحكام وأمور أخرى مهمة لا نغفلها، لكن الكلام الآن من الناحية الفقهية المجردة، فهل هذا الرجل معذور أم غير معذور؟